فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {أَنْ يَصَّلَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الصُّلْحِ

باب مَا جَاءَ فِى الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 114‏]‏ الآية، وَخُرُوجِ الإمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ، ‏(‏أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ‏.‏‏.‏

الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس‏:‏ قِيلَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِىَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ إِلَيْكَ عَنِّى، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِى نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ‏:‏ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِاللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِى وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏

الإصلاح بين الناس واجب على الأئمة وعلى من ولاه الله أمور المسلمين‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما يخرج الإمام ليصلح بين الناس إذا أشكل عليه أمرهم وتعذر ثبوت الحقيقة عنده فيهم، فحينئذ ينهض إلى الطائفتين، ويسمع من الفريقين ومن الرجل والمرأة، ومن كافة الناس سماعًا فاشيًا يدله على الحقيقة‏.‏

هذا قول كافة العلماء، وكذلك ينهض الإمام إلى العقارات والأرضين المتشاح فى قسمتها فيعاين ذلك‏.‏

وقال عطاء‏:‏ لا يحل للإمام إذا تبين له القضاء أن يصلح بين الخصوم وإنما يسعه ذلك فى الأموال المشكلة، فأما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين على الآخر، وتبين للحاكم موضع الظالم من المظلوم فلا يسعه أن يحملها على الصلح‏.‏

وبه قال أبو عبيد‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يأمرهما بالصلح، ويؤخر الحكم بينهما يومًا أو يومين، فإن لم يجتمعا لم يكن له ترديدهما وأنفذ الحكم بينهما، والحكم قبل البيان ظلم، والحبس للحكم بعد البيان ظلم‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إن طمع القاضى أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يرددهما ولا ينفذ الحكم بينهما لعلهما يصطلحان، ولا يردهم أكثر من مرة أو مرتين إن طمع فى الصلح بينهم، فإن لم يطمع فيه أنفذ القضاء بينهم‏.‏

واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بين الناس الضغائن‏.‏

وأما مسير النبى صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبىّ، فإنما فعل ذلك أول قدومه المدينة؛ ليدعوه إلى الإسلام؛ إذ التبليغ فرض عليه، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرياسته فى قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوجوه بتاج الإمارة، وكذلك قال سعد بن عبادة للنبى صلى الله عليه وسلم أنه صنع ما صنع عن التوقف عن الإسلام ما كانوا عزموا عليه من توليته الإمارة، حتى بعث الله نبيه فأبطل الباطل وصدع بالحق وبلغ الدين‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الإمام إذا مضى إلى موضع فيه أعداء له أن على المسلمين أن يمشوا معه ويحرسوه فإن جفى عليه نصروه، كما فعل عبد الله بن رواحة حين قال‏:‏ والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحًا منك‏.‏

فإن نوزع قاتلوا دونه‏.‏

وقول أنس‏:‏ ‏(‏فبلغنا أنها نزلت‏:‏ ‏(‏وإن طائفتان‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ يستحيل أن تكون الآية نزلت فى قصة عبد الله بن أبى وفى قتال أصحابه مع النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحاب عبد الله ابن أبىّ ليسوا بمؤمنين، وقد تعصبوا له بعد الإسلام فى قصة الإفك، وقد جاء هذا المعنى مبينًا فى هذا الحديث فى كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيد أن النبى صلى الله عليه وسلم مر فى مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبى‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

فدل أن الآية لم تنزل فى قصة عبد الله بن أبى، وإنما نزلت فى قوم من الأوس والخزرج اختلفوا فى حق فاقتتلوا بالعصى والنعال‏.‏

هذا قول سعيد بن جبير والحسن وقتادة‏.‏

باب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ

- فيه‏:‏ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ، قَالَتَ‏:‏ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِى خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا‏)‏‏.‏

وفى هذا الحديث‏:‏ زيادة لم يذكرها البخارى فى حديثه، حدثنا بذلك أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الهمدانى قال‏:‏ حدثنا أبو الربيع محمد بن الفضيل البلخى الصفار، حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعى، حدثنى أبو يحيى بن أبى ميسرة، حدثنا يحيى بن محمد الحارثى، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الوهاب بن رفيع، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت‏:‏ ‏(‏ما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يرخص فى الكذب إلا فى ثلاث‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا أعدهن كذبًا‏:‏ الرجل يصلح بين الناس يقول قولا يريد به الصلاح، والرجل يحدث زوجته، والمرأة تحدث زوجها، والرجل يقول فى الحرب‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة‏:‏ الكذب الذى رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الثلاث هو جميع معانى الكذب‏.‏

واحتجوا بما رواه الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال‏:‏ كنا عند عثمان، وعنده حذيفة فقال له عثمان‏:‏ إنه بلغنى عنك أنك قلت كذا وكذا‏.‏

فقال حذيفة‏:‏ والله ما قلته‏.‏

وقد سمعناه قبل ذلك يقوله، فلما خرج قلنا له‏:‏ أليس قد سمعناك تقول‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏

قلنا‏:‏ فلم حلفت‏؟‏ قال‏:‏ إنى أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله‏.‏

واحتجوا بحديث ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن مكشوح‏:‏ هل حدثت نفسك بقتلى‏؟‏ قال‏:‏ لو هممت فعلت‏.‏

فقال عمر له‏:‏ لو قلت‏:‏ نعم ضربت عنقك، فنفاه من المدينة، فقال له عبد الرحمن بن عوف‏:‏ لو قال‏:‏ نعم ضربت عنقه‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن أسترهبه بذلك‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يصلح الكذب تعريضًا فى جد ولا لعب‏.‏

روى سفيان عن الأعمش قال‏:‏ ذكرت لإبراهيم الحديث الذى رخص فيه الكذب فى الإصلاح بين الناس، فقال إبراهيم‏:‏ كانوا لا يرخصون فى الكذب فى جد ولا هزل‏.‏

وروى مجاهد عن أبى معمر، عن ابن مسعود قال‏:‏ لا يصلح الكذب فى جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم ولده شيئًا ثم لا ينجزه، اقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 119‏]‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل الذى رخص فيه هو المعاريض‏.‏

وقد قال ابن عباس‏:‏ ما أحب بأن لى بمعاريض الكذب كذا وكذا‏.‏

وهو قول سفيان وجمهور العلماء‏.‏

وقال المهلب‏:‏ ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنه مجانب للإيمان، فلا يجوز استباحة شىء منه، وإنما أطلق صلى الله عليه وسلم للصلح بين الناس أن يقول ما علم من الخير بين الفريقين، ويسكت عما سمع من الشر بينهم ويعد أن يسهل ما صعب ويقرب ما بعد، لا أنه يخبر بالشىء على خلاف ما هو عليه لأن الله قد حرم ذلك ورسوله، وكذلك الرجل يعد المرأة ويمنيها وليس هذا من الكذب؛ لأن حقيقة الكذب الإخبار عن الشىء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى ينجز، والإنجاز مرجو فى الاستقبال فلا يصح أن يكون كذبًا‏.‏

وكذلك فى الحرب أيضًا إنما يجوز فيها المعاريض والإيهام بألفاظ تحتمل وجهين فيؤدى بها عن أحد المعنيين ليغتر السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقة الإخبار عن الشىء بخلافه وضده، ونحو ذلك ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه مازح عجوزًا فقال‏:‏ إن العجز لا يدخلن الجنة‏)‏ فأوهمها فى ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن أصلا، وإنما أراد بهن لا يدخلن الجنة إلا شبابًا، فهذا وشبهه من المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب، فإن لم يسمع المصلح شيئًا فله أن يعد بخير ولا يقول‏:‏ سمعت وهو لم يسمع ونحوه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب فى ذلك قول من قال‏:‏ الكذب الذى أذن فيه النبى صلى الله عليه وسلم هو ما كان تعريضًا ينحو به نحو الصدق، نحو ما روى عن إبراهيم النخعى أن امرأته عاتبته فى جارية وفى يده مروحة فجعل إبراهيم النخعى يقول‏:‏ اشهدوا أنها لها ويشير بالمروحة فلما قامت امرأته قال‏:‏ على أى شىء أشهدتكم‏؟‏ قالوا‏:‏ أشهدتنا على أنها لها‏.‏

قال‏:‏ ألم ترونى أنى أشير بالمروحة‏.‏

وأما صريح الكذب فهو غير جائز لأحد كما قال ابن مسعود لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريمه والوعيد عليه، وأما قول حذيفة فإنه خارج عن معانى الكذب التى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أذن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذى يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيى به نفسه، وكذلك الحالف له أن يخلص نفسه ببعض ما حرم الله عليه، وله أن يحلف على ذلك ولا حرج عليه ولا إثم، وسيأتى فى كتاب الأدب باب المعاريض مندوحة عن الكذب‏.‏

باب قولِ الإمامِ لأصحابهِ‏:‏ ‏(‏اذهَبوا بنا نُصلِح‏)‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ‏:‏ ‏(‏أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ‏)‏‏.‏

يشبه أن يكون فى هذه القصة نزلت‏:‏ ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ الآية لا فى قصة عبد الله بن أبىّ بن سلول كما قال أنس، روى عن الحسن أن قومًا من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالجريد والنعال والأيدى، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ قال قتادة‏:‏ كان بينهما حق فتنازعا فيه فقال أحدهما‏:‏ لآخذنه عنوة‏.‏

وقال الآخر‏:‏ بينى وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالأيدى والنعال‏.‏

وقال قتادة فى تأويل هذه الآية‏:‏ كان الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصى‏.‏

وفيه‏:‏ خروج الإمام مع أصحابه للإصلاح بين الناس عند تفاقم أمورهم وشدة تنازعهم، وقد تقدم‏.‏

وفيه‏:‏ ما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم من التواضع والخضوع والحرص على قطع الخلاف وحسم دواعى الفرقة عن أمته كما وصفه الله تعالى‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْ يَصَّلَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ قَالَتْ‏:‏ هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنِ امْرَأَتِهِ مَا لا يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا، فَتَقُولُ‏:‏ أَمْسِكْنِى وَاقْسِمْ لِى مَا شئْتَ، قَالَتْ‏:‏ فَلا بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ الصلح خير فى كل شىء من التمادى على الخلاف والشحناء والبغضاء التى هى قواعد الشر، والصلح وإن كان فيه صبر مؤلم فعاقبته جميلة، وأمرُّ منه وشر عاقبة العداوة والبغضاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم فى البغضة إنها الحالقة يعنى‏:‏ حالقة الدين لا حالقة الشعر، أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يطلق سودة لسن كان بها، فأحست منه ذلك فقالت له‏:‏ قد وهبت يومى لعائشة فلا حاجة لى بالرجال، وإنما أريد أن أحشر فى نسائك فلم يطلقها واصطلحا على ذلك‏.‏

ودل هذا أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها، ويدخل فى هذا المعنى جميع ما يقع عليه بين الرجل والمرأة فى مال أو وطء أو غير ذلك، وكل ما تراضيا عليه من الصلح فهو حلال للرجل من زوجته لهذه الآية‏.‏

باب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَهْوَ مَرْدُودٌ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ قَالا‏:‏ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، فَقَالَ‏:‏ صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأعْرَابِىُّ‏:‏ إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِى‏:‏ عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما قضاء النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه القصة بكتاب الله فهو رد الغنم والجارية اللذين أخذا بالباطل، وقد نهى الله عباده عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ ولم يجز هذا الصلح؛ لاشتراء حدود الله ببعض عرض الدنيا، وحدود الله لا تسقط ولا تباع ولا تشترى، وأجمع العلماء أنه لا يجوز الصلح المنعقد على غير السنة وأنه منتقض، ألا ترى أنه رد الغنم والوليدة وألزم ابنه من الحد ما ألزمه الله، فقال‏:‏ ‏(‏من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد‏)‏ وبذلك كتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى فى رسالته إليه يعلمه القضاء فقال‏:‏ والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا‏.‏

وذهب مالك وابن القاسم إلى أن الصلح كالبيع، لايجوز فيه المكروه ولا الغرر‏.‏

وذكر ابن حبيب عن مطرف قال‏:‏ كل ما وقع به الصلاح من الأشياء المكروهة التى ليست بحرام صراح فالصلح بها جائز‏.‏

قال ابن الماجشون‏:‏ إن عثر عليه بحدثانه فسخ، وإن طال أمر مضى‏.‏

وقال أصبغ‏:‏ إن وقع الصلح بالحرام والمكروه مضى ولم يرد، وإن عثر عليه بحدثان ذلك؛ لأنه كالهبة، ألا ترى أنه لو صالح من دعواه تنتقض لم يكن فيه شفعة؛ لأنه كالهبة، وقد حدثنا سفيان بن عيينة أن على بن أبى طالب أتى بصلح فقرأه فقال‏:‏ هذا حرام، ولولا أنه صلح لفسخته‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلىّ، لموافقته قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏إلاصلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا‏)‏‏.‏

باب كَيْفَ يُكْتَبُ‏:‏ هَذَا مَا صَالَحَ فُلانُ بْن فُلانٍ، وَفُلانُ بْن فُلانٍ وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ

- فيه‏:‏ الْبَرَاءَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ لا تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ كُنْتَ رَسُولا لَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ لِعَلِىٍّ‏:‏ امْحُهُ، فَقَالَ عَلِىٌّ‏:‏ مَا أَنَا بِالَّذِى أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلُوهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ، فَسَأَلُوهُ‏:‏ مَا جُلُبَّانُ السِّلاحِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ الْبَرَاءِ‏:‏ ‏(‏اعْتَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ بجلبان السِلاحٌ، وأَلا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا‏:‏ قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الأجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ‏:‏ يَا عَمِّ، يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِىُّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلام‏:‏ دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، حَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِىٌّ‏:‏ أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِىَ ابْنَةُ عَمِّى، وَقَالَ جَعْفَرٌ‏:‏ ابْنَةُ عَمِّى وَخَالَتُهَا تَحْتِى، وَقَالَ زَيْدٌ‏:‏ ابْنَةُ أَخِى، فَقَضَى بِهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا، وَقَالَ‏:‏ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأمِّ، وَقَالَ لِعَلِىٍّ‏:‏ أَنْتَ مِنِّى، وَأَنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ‏:‏ أَشْبَهْتَ خَلْقِى، وَخُلُقِى وَقَالَ لِزَيْدٍ‏:‏ أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا‏)‏‏.‏

أصل هذا الباب أن يكتب فى اسم الرجل من تعريفه ما لا يشكل على أحد، فإن كان اسمه واسم أبيه مشهورين شهرة ترفع الإشكال لم يحتج فى ذلك إلى زيادة ذكر نسبه ولا قبيلته، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم اقتصر فى كتاب المقاضاة مع المشركين على أن كتب محمد بن عبد الله، ولم يزد عليه لما أمن الالتباس فيه؛ لأنه لم يكن هذا الاسم لأحد غير النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

واستحب الفقهاء أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده ونسبه ليرفع الإشكال فيه، فقل ما يقع مع ذكر هذه الأربعة اشتباه فى اسمه ولا التباس فى أمره‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه رجوع النبى صلى الله عليه وسلم إلى اسمه واسم أبيه فى العقد، ومحوه لحظة النبوة إنما كان لأن الكلام فى الصلح وميثاق العقد كان إخبارًا عن أهل مكة، ألا تراهم قالوا‏:‏ ‏(‏لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك ولا قاتلناك‏)‏ فخشوا أن ينعقد عليهم إقرارهم برسالته، فلذلك قالوا ما قالوا هربًا من الشهادة بذلك‏.‏

وأما محو ‏(‏الرحمن‏)‏ من الكتاب فليس بمحو من الصدور، وربما آل التشاح فى ذلك إلى فساد ما كان أحكموه من الصلح‏.‏

وإباءة علىّ من محو ‏(‏رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أدب منه وإيمان وليس بعصيان فيما أمره به، والعصيان هاهنا أبر من الطاعة له وأجمل فى التأدب والإكرام‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى كتابه صلى الله عليه وسلم باسمك اللهم، ولم يأب عليهم أن يكتبه إذ لم يكن فى كتابة ذلك نقض شىء من شروط الإسلام، ولا تبديل شىء من شرائعه، وإن كانت سنته الجارية بين أمته أن يستفتحوا كتبهم ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏.‏

وكان فعله ذلك والمسلمون يومئذ فى قلة من العدد وضعف من القوة، والمشركون فى كثرة من العدد وشدة من الشوكة، فتبين أن نظير ذلك إذا حدثت للمسلمين حالة تشبه حالة المسلمين يوم الحديبية فى القلة والضعف، وامتنع المشركون من الصلح إلا على حذف بعض أسماء الله أو صفاته، أو حذف بعض محامده أو بعض الدعاء لرسوله أو حذف بعض صفاته، ورأى القيم بأمر المسلمين أن النظر للمسلمين إتمام الصلح أن له أن يفعل كفعل النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك‏.‏

ولو امتنعوا من الصلح على أن يبتدىء الكتاب هذا ما قاضى عليه فلان بن فلان، ويحذف منه كل ما يبتدأ به من ذكر أسماء الله تعالى وصفاته فى ابتداء الكتاب، أو يحذف منه ذكر الخلافة؛ أنه ليس فى ترك ذلك ترك فرض من فرائض الله عز وجل لا يسع المسلمون تضييعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أجابهم إلى ما أرادوا من كتاب محمد بن عبد الله؛ لم يكن ذلك مزيلا لصفة من النبوة، ولا يكون للخليفة إذا لم يوصف بالخلافة دخول منقصة عليه، ولا زواله عن منزلة من الإمامة، كما لم يكن فى رضا النبى صلى الله عليه وسلم أن يكتب محمد ابن عبد الله منقصة عن النبوة التى جعلها الله تعالى فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما اشتراطهم عليه ألا يخرج بأحد من أهلها إن تبعه، ثم خرجت بنت حمزة وفرت معه، فإنما جاز ذلك لأن المشارطة إنما وقعت على الرجال دون النساء، وقد بينه البخارى فى كتاب الشروط بعد هذا، وفى بعض طرق هذا الحديث، فقال سهيل‏:‏ ‏(‏وعلى أنه لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا‏)‏ ولم يذكر النساء، فصح بهذا أن أخذه لابنة حمزة كان لهذه العلة، ألا تراه رد أبا جندل إلى أبيه، وهو العاقد لهذه المقاضاة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الخالة بمنزلة الأم‏)‏ يعنى فى الحضانة وهو أصل فى الحكم للخالة بالحضانة‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فيه دليل على أن أم الصغير ومن كان من قرابتها من النساء أولى بالحضانة من عصبتها من قبل الأب، وإن كانت ذات زوج غير الوالد الذى هو منه؛ وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها فى الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمها على وجعفر ومولاها أخو أبيها الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بيينه وبينه، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها، وذلك بعد مقتل حمزة، فصح قول من قال‏:‏ إنه لا حق لعصبة الصغير من قبل الأب فى حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار مع قرابته من النساء من قبل الأم وإن كن ذوات أزواج‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كانت قرابة الأم أحق وإن كن ذوات أزواج، فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك كما كانت الخالة ذات الزوج أحق به‏؟‏ قيل‏:‏ فرق بين ذلك قيام الحجة بالنقل المستفيض رواته عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الأم أحق بحضانة الطفل ما لم تنكح، فإذا نكحت فالأب أحق بحضانته، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده‏.‏

وكل واحدة من المسألتين أصل، إحداهما من جهة النقل المستفيض والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول، وغير جائز رد حكم إحداهما على الأخرى، إذ القياس لا يجوز استعماله إلا فيما لا نص فيه من الأحكام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أنت مولانا‏)‏ فالولاء فى هذا الموضع لا يصلح أن يكون إلا الانتساب فقط لا الموارثة؛ لأنه قد كان نزل فى القران ترك التبنى وترك التوارث به وبالحلف، ولم يبق من ذلك إلا الانتساب أن ينتسب الرجل إلى حلفائه ومعاقديه خاصة، وإلى من أسلم على يديه، فيكتب كما يكتب النسب والقبيلة غير أنه لا يرثه بذلك‏.‏

قال الخطابى‏:‏ الجلبان‏:‏ يشبه الجراب من الأدم ويضع الراكب فيه سيفه بقرابه، ويضع فيه سوطه، يعلقه الراكب من واسطة رحله أو من آخره، وإنما اشترطوا دخول مكة والسيوف فى قربها؛ ليكون ذلك علمًا للصلح، ولو دخلوها متقلدين بها لم تؤمن الفتنة كقول الشاعر‏:‏

إن تسألوا الحق نعطى سائله *** والدرع مخفية والسيف مقروب

والعرب لا تضع السلاح إلا فى الأمن‏.‏

باب الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ

فِيهِ عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الأصْفَرِ‏)‏، وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأَسْمَاءُ وَالْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قَالَ الْبَرَاءِ‏:‏ صَالَحَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَلاَّ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ، وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِى قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا عَلَيْهِمْ إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ قَالَ‏:‏ انْطَلَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِىَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ صلح المسلمين هذا للمشركين جائز إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فلم يكن بالمسلمين طاقة على العدو، فأما إذا قدروا عليهم فلا يجوز مصالحتهم؛ لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قاضاهم النبى صلى الله عليه وسلم هذه القضية التى ظاهرها الوهن على المسلمين؛ لسبب حبس الله عز وجل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة حين توجه إليها فبركت به، فقال أصحابه‏:‏ خلأت‏.‏

فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما خلأت ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل‏)‏ وكانت إذا حولت عن مكة قامت ومشت، وإذا حرفت إلى مكة بركت،، وكذلك كانت حالة الفيل، ففهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه ولم يتعرض لدخوله مكة، وقبل مصالحة المشركين، وحبس جيشه عن انتهاك حرمات الحرم وأهله، ولما كان قد سبق فى علمه عز وجل من دخول أهل مكة فى الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يسألونى اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله أو الحرم إلا أعطيتهم إياها‏)‏ فكان مما سألوه أن يعظم به أهل الحرم أن يرد إليهم من خرج عنهم ومن حرمهم مسلمًا أو غيره، وألا يردوا ولا يخرجوا من الحرم من فر إليه من المسلمين، وكان هذا من إجلال حرمة الحرم، فلهذا عاقدهم على ذلك مع يقين ما وعده الله تعالى أنه ستفتح عليه مكة ويدخلها حتى قال له عمر‏:‏ ‏(‏ألست أخبرتنا أنا داخلون مكة‏؟‏ فقال‏:‏ هل أخبرتك أنك داخلها العام‏؟‏‏)‏ فدل هذا أن المدة التى قاضى النبى صلى الله عليه وسلم أهل مكة فيها إنما كانت من الله عز وجل مبالغة فى الإعذار إليهم مع ما سبق من علمه من دخولهم فى الإسلام‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى المدة التى كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية‏.‏

فقال عروة بن الزبير‏:‏ كانت أربع سنين‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ كانت ثلاث سنين‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ كانت عشر سنين‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبى صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهى منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية‏.‏

وقال ابن حبيب عن مالك‏:‏ يجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة، وإجازته ذلك إلى غير مدة يدل على أنه تجوز مدة طويلة، وأن ذلك لاجتهاد الإمام، بخلاف قول الشافعى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يحجل فى قيوده‏)‏ والحجل‏:‏ مشى المقيد‏.‏

من كتاب العين‏.‏

باب الصُّلْحِ فِى الدِّيَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس‏:‏ ‏(‏أَنَّ الرُّبَيِّعَ، وَهِىَ ابْنَةُ النَّضْرِ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأرْشَ، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، قَالَ‏:‏ يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِىَ الْقَوْمُ، وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، فَرَضِىَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأرْشَ‏.‏

الصلح فى الدية من قول الله‏:‏ ‏(‏فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ‏(‏فطلبوا الأرش‏)‏ يعنى‏:‏ فطلبوا أن يعطوا الأرش، ويُعفى عن القصاص، فأبى أهل الجارية وتحاكموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فالحكم بالقصاص السن بالسن‏.‏

وإنما أقسم أنس بن النضر‏:‏ ‏(‏والله لا تكسر ثنية الربيع‏)‏ ثقة منه بالله فى أن يجعل له مخرجًا؛ لأنه كان ممن يتقى الله، فأجاب الله دعاءه وأبر قسمه بأن يسر القوم لقبول الأرش والعفو عن القصاص، فلذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏ ولم يجعله فى معنى المتألى على الله بغير ثقة‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ‏:‏ ‏(‏ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ‏)‏

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ الْحَسَنَ البصرى قَالَ‏:‏ ‏(‏اسْتَقْبَلَ، وَاللَّهِ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ‏:‏ إِنِّى لأرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّى حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ مُعَاوِية، وَكَانَ وَاللهِ خَيْرُ الرَّجُلينِ، أَىّ عَمْرُو، إِنْ قُتِلَ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، وَهَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، مَنْ لِى بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِى بِنِسَائِهِمْ، مَنْ لِى بِضَيْعَتِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِى عَبْدِشَمْسٍ‏:‏ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ‏:‏ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلا عَلَيْهِ، وَتَكَلَّمَا، فَقَالا لَهُ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ‏:‏ إِنَّا بَنُو عَبْدِالْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ‏:‏ وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِى دِمَائِهَا، قَالا‏:‏ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَنَطْلُبُ إِلَيْكَ، وَنَسْأَلُكَ، قَالَ‏:‏ فَمَنْ لِى بِهَذَا‏؟‏ قَالا‏:‏ نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا، إِلا قَالا‏:‏ نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، يَقُولُ‏:‏ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

قَالَ البخارى‏:‏ قَالَ لِى عَلِىُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ‏:‏ إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِى بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ابنى هذا سيد‏)‏ يدل أن السيادة إنما يستحقها من انتفع به الناس لأنه علق السيادة بالإصلاح بين الناس ونفعهم، هذا معنى السيادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن قتل هؤلاء هؤلاء‏)‏ يدل على نظر معاوية فى العواقب ورغبته فى صرف الحرب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وكان والله خير الرجلين‏)‏ يريد معاوية خير من عمرو بن العاص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اذهبا إلى هذا الرجل واطلبا إليه واعرضا عليه‏)‏ يدل على أن معاوية كان الراغب فى الصلح، وأنه عرض على الحسن المال وبذله ورغبه فيه حقنًا للدماء وحرصًا على رفع سيف الفتنة، وعرفه ما وعد به النبى صلى الله عليه وسلم من سيادته، وأن الله يصلح به بين فئتين من المسلمين، فقال له الحسن‏:‏ إنا بنو عبد المطلب المجبولون على الكرم والتوسع لمن حوالينا من الأهل والموالى، وقد أصبنا من هذا المال بالخلافة ما صارت لنا به عادة إنفاق وإفضال على الأهل والحاشية، فإن تخليت من هذا الأمر قطعنا العادة ‏(‏وإن هذه الأمة قد عاثت فى دمائها‏)‏ يقول‏:‏ قتل بعضها بعضًا فلا يكفون إلا بالمال، فأراد أن يسكن أمر الفتنة ويفرق المال فيما لا يرضيه غير المال، فقالا‏:‏ نفرض لك من المال فى كل عام كذا ومن الأقوات والثياب ما تحتاج إليه لكل ما ذكرت، فصالحاه على ذلك‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الصلح على الانخلاع من الخلافة والعهد بها على أخذ مال جائز للمختلع والمال له طيب، وكذلك هو جائز للمصالح الدافع المال إذا كان كل واحد منهما له سبب فى الخلافة يستند إليه، وعقد من الإمارة يعول عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بين فئتين من المسلمين‏)‏ يدل أن قتال المسلم للمسلمين لا يخرجه من الإسلام إذا كان على تأويل، ويفسر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار‏)‏‏.‏

يريد إن أنفذ الله عليهما الوعيد‏.‏

وذكر أهل الأخبار أنه لما قتل على بن أبى طالب بايع أهل الكوفة الحسن بن على، وبايع أهل الشام معاوية، فسار معاوية بأهل الشام يريد الكوفة، وسار الحسن بأهل العراقين، فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه من أهل العراق، فنادى‏:‏ يا معاوية، إنى قد اخترت ما عند الله، فإن يكن هذا الأمر لك فما ينبغى لى أن أنازعك عليه، وإن يكن لى فقد جعلته لك‏.‏

فكبر أصحاب معاوية، وقال المغيرة ابن شعبة عند ذلك‏:‏ أشهد أنى سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول للحسن‏:‏ ‏(‏إن ابنى هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين‏)‏‏.‏

فجزاك الله عن المسلمين خيرًا‏.‏

وقال الحسن‏:‏ اتق الله يا معاوية على أمة محمد، لا تفنيهم بالسيف على طلب الدنيا وغرور فانية زائلة، فسلم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه وبايعه على السمع والطاعة على إقامة كتاب الله وسنة نبيه، ثم دخلا الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين، فكانت تلك السنة سنة الجماعة لاجتماع الناس واتفاقهم وانقطاع الحرب وبايع معاوية كلُ من كان معتزلا عنه، وبايعه سعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، وتباشر الناس بذلك، وأجاز معاوية الحسن بن على بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل، وانصرف الحسن بن على إلى المدينة وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة، وولى البصرة عبد الله بن عامر، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار مملكته‏.‏

باب هَلْ يُشِيرُ الإمَامُ بِالصُّلْحِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ سَمِعَ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمْ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِى شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ الْمُتَأَلِّى عَلَى اللَّهِ، لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ، فَقَالَ‏:‏ أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَىُّ ذَلِكَ أَحَبَّ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ كَعْبِ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ الأسْلَمِىِّ مَالٌ، فَلَقِيَهُ، فَلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا كَعْبُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذين الحديثين الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه والوضع عنه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث عائشة النهى عن التألى على الله؛ لأن فيه معنى الاستبداد بنفسه، والقدرة على إرادته، فكأنه لما حتم بألا يفعل شابه ما يدعيه القدرية من إثبات القدرة لأنفسها، فوبخه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله، ففهم ذلك ورجع عن تأليه ويمينه، وقال‏:‏ ‏(‏له أى ذلك أحب‏)‏ من الوضع عنه أو الرفق به متبرئًا من الفعل إلى الله، ورد الحول والقوة إليه، ويمينه إن كانت بعد نزول الكفارة ففيها الكفارة‏.‏

وفى حديث كعب أصل قول الناس فى حضهم على الصلح‏:‏ خير الصلح الشطر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بوضع النصف عن غريمه فوضعه عنه‏.‏

باب فَضْلِ الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏كل سلامى‏)‏ يعنى‏:‏ كل مفصل وكل عظم وإن صغر، والسلاميات‏:‏ عظام مفاصل الكف، فعلى كل واحد منها صدقة لله من فعل الطاعة والخير كل يوم، إذ كل موضع شعرة فما فوقها من جسد الإنسان عليه فيه نعمة لله، يلزمه شكره والاعتراف بها حين خلقه صحيحًا يتصرف فى منافعه وإرادته، ولم يجعل فى ذلك الموضع داء يمنعه ألمه من استعماله والانتفاع به‏.‏

وإنما سميت طاعة الله من صلاة وغيرها صدقة؛ لأنه كان لله أن يفترض على عباده ما شاء من الأعمال دون أجر يأجرهم عليها، ولا ثواب فيها، ولكنه برحمته تفضل علينا بالأجر والثواب على ما فرضه، فلما كان لأفعالنا أجر فكأننا نحن ابتدأنا بالعمل فاستحققنا الأجر، فشابه به الصدقة المبتدأة التى عليها الأجر لازم فى فضل الله‏.‏

وفيه أن العدل بين الناس من الأعمال الزاكية عند الله المرجو قبولها‏.‏

باب إِذَا أَشَارَ الإمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ

- فيه‏:‏ الزُّبَيْرَ، أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلاهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْزُّبَيْرِ‏:‏ اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ آنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ حَقَّهُ لِلْزُّبَيْرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْىٍ سَعَةٍ لَهُ وَلِلأنْصَارِىِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الأنْصَارِىُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْعَى لِلْزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِى صَرِيحِ الْحُكْمِ‏)‏‏.‏

قَالَ عُرْوَة‏:‏ قَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِى ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الترجمة صحيحة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أن يسقى ويأخذ بأيسر ما يكفيه من الماء، ثم يرسله إلى جاره، فأبى ذلك جاره، واتهم النبى صلى الله عليه وسلم وأساء الظن بالنبوة من الجور والميل، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم، فأمر الزبير أن يسقى ويمسك الماء حتى يبلغ إلى منتهى حاجته، واستوعى الزبير حقه ولم يحمله غضبه صلى الله عليه وسلم على أكثر من أنه استوعى له حقه، ونزل القرآن بتصديقه، وهو قوله‏:‏ ‏(‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ الآية‏.‏

يعنى‏:‏ لا يؤمنون إيمانًا كاملا؛ لأنه لا يخرج من الإيمان بخطرة أخطرها الشيطان ونزغ بها‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه لا ينبغى الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فى غضبه ورضاه وجميع أحواله، وأن يكظم المؤمن غيظه ويملك نفسه عند غضبه، ولا يحملها على التعدى والجور، بل يعفو ويصفح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أحفظ الأنصارى‏)‏ يعنى‏:‏ أغضبه‏.‏

باب الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ وَالْمُجَازَفَةِ فِى ذَلِكَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ، فَيَأْخُذَ هَذَا دَيْنًا، وَهَذَا عَيْنًا، فَإِنْ تَوِىَ لأحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ ‏(‏تُوُفِّىَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا، وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ إِذَا جَدَدْتَهُ، فَوَضَعْتَهُ فِى الْمِرْبَدِ، آذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ادْعُ غُرَمَاءَكَ فَأَوْفِهِمْ، فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِى دَيْنٌ إِلا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَسْقًا‏:‏ سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ وَسِتَّةٌ لَوْنٌ‏.‏‏.‏

الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ كان الدين الذى على أبى جابر ثلاثين وسقًا من تمر ذكره البخارى فى باب إذا قاضاه أو جازفه فى دين فهو جائز‏.‏

وقال فيه جابر‏:‏ توفى أبى وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود‏.‏

وقد تقدم هناك أنه لا يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا مجازفة فى دينه؛ لأن ذلك من الغرر، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة فى ذلك أقل من دينه، وكذلك لا يجوز عندهم أن يأخذ من الطعام مكيل معلوم الكيل طعامًا جزافًا من جنسه إلا أن يكون طعامًا مخالفًا لجنس الطعام المكيل يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز إلا يدًا بيد‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك، أنه كره لمن كان له دين على رجل أن يأخذ فيه ثمرة يجتنيها أو دارًا يسكنها أو جارية يواضعها، وكذلك إذا اشترى منه بدينه كيلا من حنطة، كره أن يفارقه حتى يقبض الحنطة؛ لأنه يكون دينًا فى دين‏.‏

وقال أشهب‏:‏ لا بأس بذلك كله‏.‏

وهو قول أبى حنيفة‏:‏ وقالوا‏:‏ ليس من الدين بالدين؛ لأنه إذا شرع فى اجتناء الثمرة‏.‏

وفى سكنى الدار فقد خرج من معنى الدين بالدين؛ لأن ما كان أوله مقبوضًا وتأخر قبض سائره فهو كالمقبوض‏.‏

قال مالك‏:‏ ولا يجوز لمن له طعام من بيع أو سلم أن يصالحه على دراهم يعجلها أو يؤخرها؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، فلم يجز لجابر أن يعطى اليهودى فيما كان له على أبيه من التمر دراهم‏.‏

ووجه حديث جابر فى هذا الباب أنه كان على أبيه دين من جنس تمر حائطه فرغب إلى الغرماء أن يأخذوا تمر نخله ويسقطوا عنه باقى دينهم؛ لاتفاقهم أن التمر لا يبلغ قدر الدين، ومثل هذا يجوز عند جميع العلماء؛ لأنه حط وإحسان وليس ببيع، ويجوز عند جماعة العلماء فى الصلح ما لا يجوز فى البيع، وإلى هذا المعنى ذهب البخارى فى ترجمته، والله أعلم‏.‏

وأما قول ابن عباس فقد اختلف العلماء فيه، فقال الحسن البصرى‏:‏ إذا اقتسم الشريكان الغرماء فأخذ هذا بعضهم وهذا بعضهم فتوى نصيب أحدهما وخرج نصيب الآخر، قال‏:‏ إذا أبرأه منه فهو جائز‏.‏

وقال النخعى‏:‏ ليس بشىء ما توى أو خرج فهو بينهما نصفان، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى‏.‏

وحجة من لم يجز ذلك أنه غرر؛ إذ قد يتوى ما على أحدهما فلا يحصل للذى خرج إليه شىء، ومن حق الشريكين أن يساويا فى الأخذ‏.‏

وحجة من قال‏:‏ لا يرجع أحدهما على صاحبه أن الذمة تقوم مقام العين، فإذا توى ما على أحد الغرماء فإنه يبيعه به دينًا‏.‏

وقال سحنون‏:‏ إذا قبض أحد الشريكين من دينه عرضًا فإن صاحبه بالخيار إن شاء جوز له ما أخذ وأتبع الغريم بنصيبه، وإن شاء رجع على شريكه بنصف ماقبض وأتبعا الغريم جميعًا بنصف جميع الدين فاقتسماه بينهما نصفين‏.‏

وهذا قول ابن القاسم‏.‏

باب الصُّلْحِ وَالْعَيْنِ بِالدَّيْنِ

- فيه‏:‏ كَعْبَ‏:‏ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِى بَيْتِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ‏:‏ يَا كَعْبُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ، فَقَالَ كَعْبٌ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ قُمْ فَاقْضِهِ‏)‏‏.‏

اتفق العلماء أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها أو عن ذهب بذهب أقل منه أنه جائز إذا حل الأجل، وإن أخره بذلك؛ لأنه حط عنه وأحسن إليه ولا يدخله دين فى دين، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أنظر معسرًا أو وضع عنه تجاوز الله عنه‏)‏ ولا يجوز أن يحط عنه شيئًا قبل حلول الأجل على أن يقضيه مكانه؛ لأنه يدخله ضع وتعجل وأما إن صالحه بعد حلول الأجل عن دراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم لم يجز ذلك إلا بالقبض؛ لأنه صرف، فإن قبض بعضًا وبَقَّى بعضًا جاز فيما قبض وانتقض فيما لم يقبض، فإن كان الدين عرضًا فلا يجوز له فى غير جنسه مما يتأخر قبض جميعه؛ لأنه الدين بالدين، وإن كان ناجزًا فلا بأس به‏.‏

هذا قول مالك‏.‏

وإذا تقاضاه مثل دينه عند حلول الأجل على غير وجه الصلح فإنه يقبضه مكانه، ولا يجوز أن يحيله به غريمه على من له عليه دين؛ لأنه يكون الدين بالدين الذى نهى عنه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قم فاقضه‏)‏‏.‏